الأربعاء، 13 يوليو 2016

سأنبئك بالقصة من أولها .. كتبه / محمد عبد الواحد الحنبلي



سأنبئك بالقصة من أولها .. كتبه / محمد عبد الواحد الحنبلي
_______
لما أحببنا التدين وسلكنا طريق التعلم= لم نجد أمامنا إلا طائفة من المشايخ، سمتهم حسن، وهديهم الظاهر موافق للسنة، ويلهجون بتعظيم السنة وأهلها، وكان الإخلاص باديا على كثير منهم، مع ما هم فيه من ضيق وتضييق، وادعاء للنقاوة والعلم، واحتكار للسنة، وازدراء لمخالفيهم ومسالكهم، وتوسع في التحذير من كل مخالف مهما كانت مخالفته يسيرة.. ومع ما فيه كثير من خصومهم من المتشرعة من ضعف في التمسك بالهدي الظاهر -الذي كنا نظنه كل شيء-، ومن مساندة بعضهم للظالمين وتسويغهم أفعالهم، أو انفصال عن الشباب وهمومهم ومشاكلهم وسؤالاتهم.
- دعني أتجاوز أسباب انتشار السلفية المعاصرة في بلادنا، ومسوغات تركها تتمدد، فلهذا كلام آخر لا يحتمله المقام..
--- ---
--- ---
وكنا في بداية (التزامنا) مطالبين بإلغاء عقولنا لننجر خلف أناس غير عقلاء، محدودي الفكر والثقافة، ضيقي الأفق والعطن، قليلي التحقيق في السنة التي يدّعون أنهم أعلم الناس بها، بله مذاهب خصومهم وكلامهم، ومع ذلك كان الواحد منهم يخرج لأتباعه يعرض لهم مذاهب مخالفيه من أوهى مكاسرها، يوهمهم أنه أحاط بها علما، وأن المخالفين مجموعة من الحمقى لا هم في العير ولا النفير، والمريدون تحته مشدوهون يصفقون..
كنا نكابر أنفسنا في الرضا بالبلاهة!
وكلما ازدادت مساحة تسليمك لبلاهتهم، واعتقادك عبقريتهم وسعة علومهم واطلاعهم= فأنت على الجادة!
--- ---
--- ---
لم يكن ذلك باختيارنا من متعدِّد؛ بل إما أن بلاهة القوم هي السبيل المتاح الذي لا يُعرف غيره، سيما مع طعنهم في كل من سواهم، واحتكارهم التدين عبر حسن سمتهم وهديهم الظاهر..
وإما فرارا من بلاهة قوم آخرين من الدراويش!
- كان مآل كثير من الأذكياء ممن لم يتحملوا مكابرة عقولهم= ترك هذا (الالتزام)، وهو ما جعل القوم يعدونهم منتكسين!
وقد تزيد سطوة القوم على بعض هؤلاء الأذكياء، فينتسكون فعلا انتكاسا حقيقيا، ولقد خرج بعضهم إلى العلمنة أو الإلحاد.
- وآخرون لم يدخلوا تلك السكة أصلا، وهؤلاء قد يعدون عند القوم في أحسن أوصافهم من (العامة)، فإن هم حَذروا من سبيل القوم وازدروهم= فلا تسل عن نصوص ذم الملأ، ورميهم أنهم يسخرون من المؤمنين الضعفاء الذين هم أتباع الأنبياء!
وستشنف مسامعك أدبيات مدح الغربة وأهلها، وحنين بعضهم لبعض، لتزداد تمسكا كلما خالفك العقلاء، وتعد ذلك إضاءة لك في طريقك الذي أنت فيه: الجماعة، ولو كنت وحدك!
- لم يكن هناك صوت آخر يمكن أن تسمعه وقتها، فالمخالف إما محذَّر منه، وإما مؤثر السلامة من أن يسلق بألسنة حداد، وإما أنه سبب ظهور البلهاء أصلا واستطالتهم بفساده وتلوثه!
--- ---
--- ---
وقد شاع فينا معشر (الملتزمين) من جراء ذلك كله: حبُّ الإغراب، والاستمتاعُ بالغربة؛ في كلامنا وهيآتنا وآرائنا، فترى الحدَث أول (التزامه) مولعا بالإغراب وحب المفارقة لمألوف أهله وبيته ومحلته، يميل إلى التشديد عليهم، وإنكار عوائدهم، وشرعنة جديده، وله ولع بتحريم كلمات شاعت عند أهل بلده، وأمثال يرددونها، وأزياء يرتدونها، وعوائد يألفونها، إلخ.
وقد يقيس تدينه ويقيسه رفقاؤه بتلك المفارقة وذلك الإغراب، وما يلاقيه من عنت فيهما!
ولئن عُذر الحدث والمبتدئ في ذلك لحداثته؛ فاللوم واقع على معلميه ومنظّري طريقته، فلولا غرابتهم= ما أغرب، ولولا حب التفرد الظاهر عليهم= ما ورثه أتباعهم، ولولا ذلك= لقبل الناس منهم خيرا كثيرا، ولانتفعوا هم بما عند الناس من خير.
وقد رأينا بعض الناس يجابه أهل بلده بفتاوي وأقوال لم يجر بها عملهم، وينشرها بقوله وفعله وطباعة الكتب وترويجها ونشر الصوتيات والمرئيات وغيرها؛ بزعم نشر السنة.. مع أن الأصل ألا يفتَى الناس بغير المذهب المعتمد في بلدهم، وقد يصلح الناس ببقائهم على المرجوح، ويشوش عليهم الراجح ويفتح لهم باب فساد (فضلا: لا تسارع برد هذا علي، ودع الأيام تعلمكه).
- وقلت من قبل: إن الغربة التي يكون عليها المصلحون= ليست مطلبا شرعيا؛ بل هي قدر كوني، ولا تمدح إلا بموافقة الشرع، لا بالإغراب في العوائد والمآكل والمشارب والألفاظ وما يجري مجراها؛ بل الشرع حريص على موافقة الداعي والمصلح الناس في ذلك، ومخالطتهم في أماكنهم.
--- ---
--- ---
في الوقت ذاته فأنت أسير اتجاه واحد في الفكر والتلقي والقراءة والنقاش، وسائر الطرق محذَّر منها مبدَّع أربابها مردود عليهم، وأنت موهَم بإحاطة مشايخك بما عند المخالفين، وأنهم يقدمون لك العسل مصفى!
وأنت أيضا تربى وتنشأ على ثقافة الردود والنقود، لا البناء المتماسك والتأصيل المكين.
--- ---
--- ---
لما سمع بعضنا لاتجاهات أخرى وانفتح عليها، وعلم الضعف المزري الذي عليه مشايخه الأول، ووقف بنفسه على كذب بعضهم وتعالم آخرين= صُدم صدمة شديدة، ثم انقسم هؤلاء إلى ثلاث فرق:
- فريق ما أفاق ثانية، بل انتقل تماما إلى الجهة المضادة، وفقد كل ثقة بطريقه الأول.
- وفريق ترك الطريق جملة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
- وفريق حاول تكميل أدواته والإنصاف من نفسه ومن مخالفيه، وكلما ازداد علما واطلاعا ونمت مواهبه= فارق القوم ولا بد، غير أنه لم يصر خصما لهم، ولا صار مجرد ردة فعل.
لكن أصحاب النقاوة والطهرانية محتكري (الالتزام) والسنة، والبعض الآخر الذي تبعهم ولم يسمع لغيرهم سماع باحث عن الحق، أو لم يسمع لغيرهم أصلا= لم يقبلوا تلك المخالفة، وعدوا ذلك مباينة تامة لهم، وكفرا بأنعمهم، وقلبا لهم ظهر المجن، ومنافسة ممن هم في طبقة تلاميذهم.
علما بأن هؤلاء القوم باينوا الدنيا بأسرها في أول حياتهم، وناظروا الكبار بلا أهلية، وردوا على فرق الأمة كلها، وما كان يعجبهم أحد ولا يبالون بأحد، وحين كانوا يفعلون ذلك مع من سبقهم= كانوا دون من يستنكرون عليهم مخالفتهم اليوم علما وسنا وشهرة وقدرا!
- وها أنت ترى أثر ذلك كله ماثلا اليوم أمامك، تشنجاتٍ وتعصبات وتحزبات وتعالما وسوء خلق وبطرَ حق وغمطَ ناس وانغلاقا وجمودا وضيق أفق وأوهام نقاوة وطهرانية ووقوفا في المكان والزمان يتحرك.
وإن تعجب؛ فعجب قولهم حين يردون على المخالف: علماؤنا الكبار لم يقولوا ذلك ولم يفتوا به، وردوا عليه!
وما رأى هؤلاء في فئتهم عالما واحدا كبيرا ولا صغيرا!!
-- ---
-- ---
إننا نحاول اليوم تجنيب النشء تلك السبيل، واختصار العمر لهم، والمحافظة على مواهبهم واستثمارها، وتوسيع آفاقهم، ووصلهم بسلفهم حقا، وإحياء تراث الأمة وتفعيله.
ولو كنا وجدنا من يرشدنا ونحن صغار إلى سبيل العلم الحقيقي والفهم الصحيح= لربما كنا اليوم شيئا آخر. والله متم نوره وهو الموفق لا رب سواه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة @ 2013 مركز العز بن عبدالسلام للأبحاث و الدراسات.